ذاك اليوم دخلت جارتنا الفضولية دارنا وهي تزمزم فمها متمتمة:
_لا… شيءٌ لا يصدّق! أنا فعلاً أكاد أكذّب عينيّ.
_ ماذا حصل؟ ما الحكاية؟
_ الحكاية لا تُحكى، عليك أن تري بعينيك.
_ أرى ماذا؟ وأين؟ ومتى؟
_ عند المساء ستعرفين كلّ شيء بنفسك، لو تحبّين أحضري طعاما معك.
_ أنا لا أفهم شيئا.
_ أنتظرك مساء.
ذهبت أنا وأختي؛ انتظرتنا في مدخل الحيّ المقابل؛ همست متسائلة: مدير المدرسة المحترم يفعل هذا؟!
كنا نتبعها وهي تشتمه، وتشتم هذا الزّمن.
قالت: “هنا، من هذا الباب الخلفي؛ كسرنا القفل البارحة لنتمكّن من الدّخول؛ الباب بات مفتوحا. كنا نسمع ليلا ويوميّا صوتا غريبا ضعيفا كأنين، يتسلّل من هذا المكان مع السّكون؛ خلنا أوّل الأمر أنّه صوت حيوان يحتضر، فالمكان غير مسكون كما اعتقدنا، لكن البارحة اتضحت لنا الحقيقة!”
دخلنا غرفة المدخل؛ أضاءت الجّارة شمعة أحضرتها معها؛ المكان فارغ، الغبار في كلّ مكان، كما السّكون! لا شيء فيه سوى رائحة نتنة قويّة لا تحتمل!
مشينا وراءها؛ المكان عبارة عن غرف متصلة فارغة إلّا من تلك الرائحة التي ازدادت حدّة، حدّ الاختناق.
عجزت عن أن أتخيّل ماذا سيكون في هذا المكان؛ وقبل أن أزداد حيرة، وقبل أن أعلن عن رغبتي بالخروج، سمعت صوتا ضعيفا يهمهم في العتمة. دنت الجارة التي تعرف المكان جيّدا، دنت من عجوز اختفت ملامحها؛ كومة من العظام الناتئة المختبئة تحت غطاء عدائي الملمس! عارية تماما بجلدها المتشقّق ووجهها الغارق بين كتفيها! لم أستطع أن أفتح فمي أو أنفي. كانت تقضي حاجاتها في المكان عينه؛ تأكل ، تشرب، تتبرّز وتبول على نفسها وحولها. لم أفقه ما هذا الذي أراه! تمتمت الجارة: هذه أمّ المدير المبجّل! لم يكن ذاك المدير، إلّا وافدا على البلدة من عدّة سنوات. لا أحد يعرف عن أهله، أو عائلته. لكنّه سرعان ما اكتسب مكانة مرموقة في البلدة بسبب وظيفته الرسمية، كان موظّفا حكوميا في وزارة العدل، إضافة إلى كونه صاحب ومدير مدرسة خاصة في بلدتنا عينها. ما إن دنونا منها، حتى أخذت تقول كلاما غير مفهوم وصلني منه شكر ودعاء. نسيت أنفي وأنفاسي وحياتي! أحاول أن أفهم كيف يكون هذا؟ كيف يفعل آدمي بأمّه هذا؟
قوّة الحياة فيها غريبة! أكلت الساندويتش الذي قدّمته لها الجارة بنهم وشهيّة تتعارضان مع شكل جسدها الميّت تقريبا، ومع قذارة المكان! تمضغ و تشكر! لا تمتلك ترف التذمّر. الإنسان ينتهي بأن يتعوّد كلّ شيء وأيّ شيء، بشكل لا يمكن توقّعه، أو حتّى تخيّله. كم أسعدها سندويتش اللبنة!
ما الذي حمل ابنها على إخفائها هناك؟ أخفاها ببساطة لينجو من همّ العناية بها، ولتموت قبل أن تموت! كان ينعم ببحبوحة عيش، وبمال يجنيه بوسائل “قانونية ذكية”: تزوير أوراق ومستندات (يسمّونه عندنا في لبنان، تسهيل معاملات وشطارة )؛ مدرسة خاصّة مجانية بأسماء طلّاب وهميين( تدفع له الوزارة تكلفة تعليمهم!)، وإفادات مغشوشة… باختصار “خدمات عامة إنسانية” بأجر! هو معذور! عليه سدّ جوع ثلاثة عشر فم مفتوح( عدد أولاده) … وفم أمّه المفتوح أبداً طلبا للهواء قبل الماء، وجسدها المسجّى تحت القسوة والوحدة والعتمة والخراء، كلّ هذا لم يكن في الحسبان!
لا أستطيع أن أنسى ذاك المشهد الذي قوّض فكرتي النمطية عن علاقة الإبن بأمّه: الحكايات والمحفوظات والجنّة تحت أقدام الأمّهات، والكليشيهات الأخرى التي لا نفتأ نردّدها.
كيف ينام بسلام؟ وكذلك زوجته، وأولاده، كيف لا يشعر أيّ منهم بالتقصير والذنب؟ كيف ينجو من كوابيسه؟ وألف كيف وكيف وألف سؤال وسؤال و شعور بالغضب حدّ الرّغبة بفعل أيّ شيء. ولكن ماذا حصل بعدها؟ لاشيء. ماتت المرأة أخيرا وبعد عدة أشهر من رؤيتي إيّاها؛ وكانت مراسم العزاء تليق بشخصية هي من وجهاء الضّيعة وأعيانها، موظّف حكومي مهمّ ومدير مدرسة عصماء تكرّس العلم والقيم والأخلاق!
ماتت هي وأكملت حياتي أنا، بخوف وجبن ورغبة خجلى بتغيير نظم هذا العالم وآلهته ربّما! لكن في الواقع لم أفعل شيئا. لا أنفك أقطّب، وأخاف وأتذمّر. كأنّي لا أجيد الحلم! أجيد التذمّر وحسب.
الغريب أنّ تلك المرأة كانت تبتسم وتشكر! شكرتنا كثيرا وابتسمت لنا ابتسامة واسعة بفمها الأدرد لا أنساها! لم أنسَ كذلك ذاك الإبريق البلاستيكي الذي نستعمله في المراحيض، والذي كان متروكا جنبها، لتشرب منه! ورغيف الخبز المرقوق، الذي يرمى للدجاج متى فقد ليونته، يغطّي رأسها ووجهها؛ وجهها الذي غابت ملامحه، وتبقّى منه صوت، يشكر، يئن وينتظر.
لو كتبت تلك المرأة، لربّما عرفت الشّكر والرّجاء والابتسام أكثر مني! كأنّي اعتدت الحزن خوفا وتحسّبا من حزن حقيقي قاهر أكبر! أداوي خوفي من الحزن بحزن! وكأنّي أعي وأصدّق أنّ هذا العالم بكلّ فوضاه وخرابه، كلّ ما فيه محسوب بدقّة! “لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها!”
لماذا حضرت في ذهني تلك الحكاية الآن في سريري هذا، في حالتي هذه، وفي وضعي النّفسيّ والجسديّ هذا، بعد مرور عقدين من الزمان على حدوثها؟ عليّ أن أقرأ جيّدا، عليّ أن أسكن، وأفهم،وأصلّي! ليست تلك الصلاة التقليدية، الباردة! صلاة من نوع آخر، تمكنّني من أن أرى أنّنا دوما محظوظون في مكان ما؛ قادرون على فعل فرديّ ما. فبعيدا عن تحليلات الماركسيّين الماديّين لحركة المجتمع والتّاريخ، والمثقفين الثوريّين الذين يزعمون أنّهم يسعون لإنصاف هؤلاء المنسيين أبدا؛ بعيدا عن كلّ الجمعيات الإنسانية، ورغما عن كلّ شيء وربّما مازوشية منّي، وبعدوى من تلك العجوز الشّاكرة، أشعر بالامتنان وأشعر أنّ عليّ أن أشكر وأصلّي وأبتسم وأحيا وأفعل! أفعل كلّ ما بوسعي ليكون هذا العالم مكانا أفضل!
من رواية ( أنا أخطئ كثيرا)