ركائز حضارتنا العربية
بقلم : د . محمود حمد سليمان
إذا نحن تعمقنا في حضارات الأمم والشعوب، قديمها وحديثها، فسنجد أن لكل حضارة سماتها ومميزاتها الخاصة بها، وهي حضارات متباينة في منطلقاتها وخلفياتها وأهدافها .. فهناك حضارة وثنية وهناك حضارة عسكرية أو عنصرية أو مادية، أو اقتصادية، أو ما أشبه..
فما هي خصائص وسمات حضارتنا العربية ..!؟ وما هي منطلقاتها وخلفياتها وغاياتها .. والمقاصد ..!؟
بخلاف معظم حضارات العالم تقوم الحضارة العربية على فضائل النفس ومكارم الأخلاق .. وهي فضائل ومكارم رافقت الإنسان العربي ولازمت الأمة العربية منذ بدء تكوينها وعلى مرّ العصور والأزمان .. ومنها : الكرم، والشجاعة، والمروءة، والشرف، والوفاء، والإخلاص، والصدق، والصبر، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، وحماية الجار، وعزة النفس .. وإلى ما هنالك من قيم عربية ومُثـُل عُليا حفلت بها قصائد الجاهليين وخطبهم وأقوالهم وأمثالهم .. حتى إذا جاءت المسيحية ثم الإسلام فقد رسَّخا هذه القيم وأضافا إليها قِيماً ومُثلاً أخرى جديدة، ومن أهمها :
الإيمان بالله، والجهاد، والعدل، والتقوى، والورع، والزهد، والتسامح، والمساواة، والحرية، والتواضع، وقول كلمة الحق، وبـِرّ الوالدَيْن، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه.. وغير ذلك .
ولهذا كان قول السيد المسيح :” ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان” 1 ولهذا أيضاً كان الحديث النبوي : ” إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” 2
والواقع، أن المسيحية والإسلام لم يرسِّخا هذه القيم فحسب، وإنما أيضاً شذّبا النفسية العربية من كل المفاسد والموبقات والرذائل كالكفر، والعنصرية، والغدر، والخيانة، والكره، والتعصب، والضغينة، والحسد، والظلم، والاحتيال، والكذب ..الخ .
علماً أن هذا التشذيب وهذا الترسيخ وقعا في نفسية عربية خام لم تلوّثها أدران حضارات سابقة، ولم تزغلها أفكار فلسفات وعقائد راسخة .. فكان العرب كما وصفهم القرآن الكريم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ..)3 وحين وصف النبيّ الكريم قال:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
4
ولنلاحظ أنه، سبحانه، قدَّمَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في إشارة واضحة إلى أن ميزة الإنسان العربي وخصوصيته هي فضائل النفس ومكارم الأخلاق .. وأنه مكلَّف بالخروج بها إلى العالم كلِّه.. وهو ما حصل فعلاً مع الفتوحات وانتشار الإسلام كما المسيحية في كل أنحاء الأرض لتصير هذه القِيم قِيماً إنسانية عامة عند مختلف الأُمم والشعوب .. علماً أن المفسرين والعديد من فلاسفة العالم ومفكريه توقفوا مليّاً عند الآية السابعة بعد المئة من سورة الأنبياء بقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) للإستدلال على شمولية المعنى لكل خلق الله ومخلوقاته .. بما في ذلك المؤمن، والكافر، والحيوان، والنبات، والجماد .. وكل ما خلق الله .. ولعلنا ندرك أنه حتى الكافر تصيبه هذه الرحمة بما يتحصَّل له من فضائل ومكارم ولو لم يكن من بينها الايمان بالله الواحد الأحد ..
وعليه، فإن هذه القِيم هي المساحة الانسانية الجامعة التي حملتها حضارتنا للناس كافة، ولذلك فإننا لا نكاد نرى مكرمة من المكرمات إلا ولها إشارة في الإنجيل أو في قول من أقوال السيد المسيح .. ولعلَّ الوصايا العشر تعبِّر تعبيراً دقيقاً عن هذا التوجه وهذه المنطلقات :
( أنا هو الربُّ لا يكنْ لكَ آلهة غيري، لا تحلف باسم الربِّ بالباطل، أكرمْ أباكَ وأمَّكَ، لا تقتلْ، لا تزنِ، لا تسرقْ، لا تشهدْ شهادة زور، لا تشتهِ مُقتنى غيركَ، لا تشتهِ امرأةَ قريبكَ ..) 5
وكلُّها كما نلاحظ، تهدف إلى تهذيب النفس بأوامر ونصائح تحضُّ على بناء الإنسان بناءً فاضلاً وصالحاً في إطار إنساني شامل ..
وفي الوقت نفسه، فإننا أمام مُثـُل وقِـيَم كثيرة للسيد المسيح ترشدنا إلى أهمية الفضائل البشرية جمعاء كقوله : “أريد رحمةً لا ذبيحةً” 6 وقوله :”من أراد أن يصير فيكم عظيماً يكنْ لكم خادماً . ومن أراد أن يصير فيكم أوّلاً يكنْ للجميع عبداً”7
وقوله :” كما تريدون أن يفعل الناس بكم إفعلوا هكذا أنتم بهم”8
وكقوله في إخلاص الإيمان والأُخوَّة :” أَحِبَّ الربَّ إلهكَ من كل قلبكَ ومن كل فكركَ ومن كل قدرتكَ، وأحبَّ قريبكَ كنفسكَ” 9
وفي الوقت نفسه، فلن نجد فضيلة من الفضائل إلا ولها صدى في آية قرآنية أو أكثر، وفي غير حديث من الأحاديث النبوية الشريفة كقوله تعالى في عزة النفس :
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) 10 وقوله في الأخوَّة والوحدة : ( وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا..)11
وقوله سبحانه في الأمانة ووجوب العدل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)12
وقد ترد أكثر من فضيلة في آية واحدة كقوله : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)13
وفي بـِرِّ الوالدين يقول القرآن : ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)14
وكثيرة هي الآيات، في المسيحية والإسلام، التي تحدثت عن الأمان، والرحمة، والمودة، والإحسان، والصبر، والبِرِّ، والمعروف، والوحدة، والحرية، والمحبة، والسلام .
ولعلنا نلاحظ أن أغلب هذه الفضائل مرتبطة مباشرة بالله سبحانه وتعالى وبالإيمان به، ثم أنّها مقدَّمة في إطار إنساني شامل ..
فهي ليست مطلوبة أو موجّهة لفئة أو لطائفة أو لمذهب وإنما هي لكل الناس ولكل بني آدم في كل زمان ومكان ..
ومثل هذا وذاك نجده أيضاً في الحديث النبويِّ وفي سيرته، صلى الله عليه وسلم، كقوله في الكرم :
(مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه)15
وقوله : ( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره)16
وقوله عليه السلام : ( لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)17
وفي الحضِّ على رفض الظلم ومقاومته، يقول : ( إذا لم تقل أمتي للظالم يا ظالم فقد تـُودِّع منهم)18
وفي التشجيع على الصدق يقول، عليه السلام:( عليكم بالصدق فإن الصدق يَهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقا..)19
وكذلك في التواضع، فيقول : ( إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يفخر أحدٌ على أحد)20
وفي الأخلاق يقول : ( إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)21
ولقد استوعب الصحابة الأوائل هذه الأهداف الحضارية للرسالة فعضّوا عليها بالنواجذ ومارسوها ممارسة عملية في مختلف الظروف والأوضاع .. فها هي أمُّ المؤمنين السيدة خديجة تصف الرسول (ص) فتقول :
“كلَّا . واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا؛ إنك لـَتصلُ الرحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتـُكسِبُ المعدومَ، وتـُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحق”؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، وقال ابن حجر: “وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: وتؤدِّي الأمانة”22”
وبذلك لم تصفه إلا ببعض ما فيه من فضائل ومكرمات ..
وهذا عمربن الخطاب ينتصر لكرامة القبطي مِن والي مصر وابنه، ويطلق صيحته الشهيرة : ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارا ” (23) .. وها هو يؤدِّبُ أحدَ الشعراء ويسجنه لأنه قال : ” دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها ..” ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذ عليه عهداً بعدم التعرض للفضائل ولأعراض الناس..(24)
وهذا الإمام عليّ تجمَّعتْ فيه الفضائل والمكارم قولاً وعملاً .. نظريةً وتطبيقاً، حتى لقد جمع له العلماء العديد منها فألـَّفوا فيها كتباً عديدة، منها : فضائل أمير المؤمنين لإبن حنبل، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي، وعمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار لإبن بطريق ..
ونحن لو أخذنا ما فعله الإمام بواقعة واحدة لأغنتنا عن كثير من فضائله التي لا تُعدُّ ولا تُحصى .. والواقعة هي أنه والزهراء وخادمتهما كانوا صائمين وليس عندهم من الطعام سوى ثلاثة أقراص مشويِّة من الطحين .. وقبيل موعد الإفطار طرق البابَ مسكينٌ يطلب طعاماً فدفعوا إليه بأحد الأقراص .. وما لبث أن جاءَ بعده طارق يقول إنه يتيم جائع، فدفعوا إليه بالقرص الثاني .. ليعقبه ثالث يقول بأنه أسير محرر وغريب، فدفعوا إليه بالقرص الثالث .. وهكذا أفطروا على الماء ليس إلا ..
في هذه الواقعة نزل قرآن بقوله تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا )25
وفي عصور لاحقة، كان تطبيق العدل هو سِمة القضاء حتى ولو على صاحب السلطان نفسه، فهؤلاء هم أهالي سمرقند يشكون قائد الجيش “قتيبة بن مسلم” إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز لأن الجيش دخل مدينتهم عنوة وغدراً ودون تفاوضٍ أو سابق إنذار، فاحتكم الخليفة إلى القاضي “جميع بن حاجي الباجي” الذي قضى بإخراج الجيش من سمرقند .. فخرج .26
أما القاضي “مصعب بن عمران” بالأندلس، فقد حكم على العباس بن عبد الملك المرواني بإعادة بستانٍ إلى أبناء رجل كان قد اغتصبه منهم يوم كانوا أطفالاً.. وذلك رغم تدخل أمير قرطبة لمصلحة ابن الخليفة .27
وفي العصر العباسي ، يحكم القاضي المشهور “أبو يوسُف” على الخليفة المهدي في قضية اغتصاب رجال المهدي لصالحه بستاناً لرجل نصراني .. فلما حضر الخليفة مجلس القضاء أو ما نسميه اليوم قاعة المحكمة، فقد استمع القاضي لحجة الطرفَيْن فرأى أن البيِّنة مع الخليفة ولكنه في قرارة نفسه كان مقتنعاً بأن الحق للرجل .. فطلب من الخليفة أن يحلف بأن شهوده صادقون .. فأبى . وعندها أصدر حكمه بإعادة البستان إلى النصراني .28
وفي قضية أُخرى، فلعل قصة القاضي “أبي يوسف” نفسه والوزير الأول لهارون الرشيد “الفضل بن الربيع” تحمل في طياتها دلالة هامة على قول كلمة الحق حتى ولو خالفت رأي الحاكم أو مصلحته .. لقد ضجت بغداد يومها بخبر أن ” أبا يوسف” ردَّ شهادة “ابن الربيع” ورفض الاستماع له في قضية أمامه .. مع ما يعنيه ذلك من تأثير سلبي على الخليفة نفسه .. ومرت الأيام حتى التقى الخليفة بأبي يوسف صدفةً فسأله عن سبب رفضه الاستماع لشهادة الوزير الأول، فأجاب : يا أمير المؤمنين، لقد سمعتـُه مرة في مجلسكَ يقول لكَ : أنا عبدك .. فإن كان صادقاً فلا شهادة لعبد .. وإن كان كاذباً فلا شهادة لكاذب ..29
وهذا القاضي “خير بن نعيم” قاضي مصر، يأتي إليه رجلان يتنازعان في جمل تبايعاه واكتشف الشاري علة فيه بعد أن كان قد دفع ثمنه .. وإذ كان الوقت مع صلاة المغرب فقد أجَّلَ الحُكْمَ في المسألة إلى صباح الغد. وبسبب هذا التأجيل فقد حكم القاضي على نفسه بثمن الجمل للشاكي لأن الجمل مات ليلاً وقبل معاينته.30
هذا غيضٌ من فيض المكارم والفضائل التي قامت عليها أسسُ حضارتنا العربية منذ فجر التاريخ والتي شكَّلت بدورها رافداً إنسانياً راسخاً للبشرية جمعاء، كما قلنا سابقاً.
ولو نحن أسهبنا في رصد مثل هذه القبسات في تاريخ أمتنا لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات ولن نستطيع الاحاطة بها كلَّها .. وحسبنا ما تركته الحضارة العربية من تأثير في الانسانية جمعاء ..
ولعل الدليل الأبرز أن دساتيرَ وقوانينَ العالم كله مستمدةٌ من روحية هذه الفضائل وأحياناً بحرفيتها، وفي طليعة ذلك قوانين ومبادئ الأُمم المتحدة وغيرها من المنظمات والجمعيات الدولية والإنسانية .. ناهيك عن تأثر المجتمعات البشرية كلها بهذه القيم في العادات والتقاليد والسلوك والمفاهيم . وما تجب الإشارة إليه هو أن فضائل النفس ومكارم الأخلاق شكَّلت في الوقت نفسه أهم مميزات وسمات هويتنا العربية الإنسانية المؤمنة، ولذلك كان التعبير دقيقاً في الوصف عندما نقول : “العروبة الحضارية” التي تجرَّدتْ من الكره والتعصُّب والعنصرية والعرقية والامتيازات القومية كما هي عليه الحال في الفكر القومي الأوروبي والغربي بشكل عام . وهذا ما عناه الحديث النبوي بقوله، عليه السلام : ” أيها الناس، إن الربّ واحد والأبَ أبٌّ واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان، فمن تكلَّمَ العربية فهو عربي “31
وهكذا نرى كيف جرَّدها من التعصب العرقي والعنصرية، وجعلها قائمة على الأخوَّة الانسانية الشاملة .. ولأن العرب هم المكلفون بحمل هذا النهج وهذه الفضائل فقد خصَّهم بمكانة مميزة فقال : ” أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي “32 وقال : “حبُّ قريش إيمان وبغضهم كفر، وحبُّ العرب إيمان وبغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني ” 33
وأخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان؛ لا تبغضني فتفارق دينكَ . قلتُ : يا رسول الله كيف أبغضك وبكَ هدانا الله..!؟ قال: تبغضُ العرب فتبغضني ” قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد .
وهكذا نرى أنه عليه السلام، أضاف إلى الدعوة الحسنة محاسن الدعاة لها وصِلتهم به رابطاً بين الدعوة والدعاة للمساهمة في تقبُّلِها عند الشعوب الظامئة للحق والخير والعدل والحرية والسلام .. في المعمورة كلها .
وهو ما لم يستطع إدراكه شيوخ السلطان عند العرب في العصور المتأخرة .. فقاموا، انطلاقاً من سطحيتهم وهشاشة ثقافتهم، باستعارة مقاييس الغرب ومعاييره لينسجوا على منوالها أفكارهم ومواقفهم من العروبة والقومية العربية، وهم لسِماتها وخصائِصها ومنطلقاتها جاهلون أو جاحدون .. مَثَلُهُم في ذلك كمَثَل الذي جاء بمحرِّك سيّارةٍ صغيرةٍ ووضعه لشاحنة كبيرة.. فتعثرت.. وتعثروا.. وحبذا لو أنهم تشبَّعوا بركائز حضارتِهم ومُثُلِها العليا، وراحوا يجهدون في الحفاظ عليها وترسيخها وتكريسها كما فعل أسلافهم من علماء الأمة ومثقفيها ومفكريها ..
بل ليتهم عرفوا أن الإسلام كان أسرع ثورة تغيير في العالم كما استنتج أحد المستشرقين .. ولقد حصل هذا لأن الركائز التي قام عليها الإسلام كانت هي فضائل النفس التي جُبل عليها الإنسان بالفطرة .. ولذلك فقد تقبَّلتها الشعوب بهذه السرعة الفائقة .. وإذا كانت المسيحية السمحاء والاسلام الحنيف هما المصدر والمنبع لهذه الفضائل والمكارم .. فلقد كانت العروبة هي الوعاء الذي حملها لكل الشعوب الظامئة لها .. وهو ما استنتجه مستشرق آخر فقال : ” ما دخل العرب أرضاً وكانوا فيها غزاة.. ” وما كان ذلك ليكون إلا لأن العربي مُشبعٌ بهذه القِيم والمُثل العليا التي هي منطلقات حضارته وثقافته ومفاهيمه وغاياته .. والأهداف .
إننا ونحن نكتب هذه الدراسة ونستخلص هذه النتائج، نشعر، في الوقت نفسه، بالأسى عندما نلاحظ هذا التراجع الرهيب لهذه الفضائل والقيم في نفوس بعض الناس في مجتمعنا، وفي علاقاتهم وتصرفاتهم ومواقفهم .. والممارسات . وهو ما يدفعنا إلى تساؤلات لاعدَّ لها ولا حصر..
أين هي عزة النفس، عندما ينتخب البعضُ منا الفاسقَ والفاجرَ والسارقَ .. من أجل حفنة من المال لا تغني ولا تسمن متنازلاً عن كرامته التي جبله الله عليها..!؟ وربما يبرر فعلته هذه بالفقر والعوز .. وكأن المقترع لم يسمع بقوله تعالى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) 34
أين هو العدل عندما ينتظر القاضي أوامر الحاكم لكي يحكم بالقضايا والمسائل التي أمامه وكأنه لم يسمع بقوله تعالى : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ )
أين هو الإيمان الحقيقي وبعض الناس ينخرُ عقولَهم الاصطفافُ الطائفي أو المذهبي أو العشائري أو المناطقي .. وكأنهم ما سمعوا بقوله تعالى:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) 35
أين هي الأمانة وبعض التجار ورجال الأعمال وأكثر الحاكمين يكدِّسون الأموال المنهوبة والمسلوبة وكأنهم ما سمعوا بقول السيد المسيح : ( مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ) 36
أين هي الاستقامة وبعض التجار والمتعاملين في بلادنا يكذبون ويغشون ويخدعون ويخادعون وكأنهم لم يسمعوا بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)37
أين نحن من الوحدة الوطنية والوحدة العربية .. وهذه التجزئة والإنقسامات هي المولـِّد لكل ضعفنا وهواننا وهمومنا .. والمشاكل
بل أين .. وأين .. وأين نحن من فسادٍ يعشعش في دوائرنا .. وجهلٍ يتفشى في مؤسساتنا .. ورياء وكذب ونفاق .. وكله يسود في علاقاتنا وتصرفاتنا ومسلكياتنا .. والأساليب .
ولو نحن استطردنا في التفصيل لرأينا هذا التراجع في كل فضيلة ينتشر كالوباء المعدي عند غير فئة وفي غير منطقة وناحية ..
يحضرنا في هذه المسألة أن الاستعمار أدرك منذ زمن بعيد أن الفضائل والمكارم تشكِّل للشرق وللعروبة منعة قويّة في وجه مخططاته وأهدافه ومصالحه .. فعمد إلى “الغزو الثقافي” وسيلة من أهم وسائله في تحطيم هذ “المنعة” وإزالة عوائقها وسدودها ..
وعليه، فإن تمسكنا بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الحضارية المميزة يُفضي بنا إلى الحفاظ على قوتنا ومكانتنا وهويتنا وبالتالي، على مصالحنا ودورنا الإنساني الرائد بين الأُمم والشعوب .. وَلْيَعُد كيد الكائدين إلى نحورهم .. وما الله بغافل عما يعملون .
خلاصة القول، إن المسيحية والإسلام شكّلا رافداً حضارياً واحداً استهدفا به الإنسان في كل أرجاء العالم . ولقد صبَّ هذا الرافد في بحر الإنسانية جمعاء وأنتج في نهاية المطاف حضارة عالية الأفنان، وارفة الظلال، راسخة الجذور، إنسانية التوجه والمنطلقات والأهداف ..
* تـَمَّـتْ *
والله من وراء القصد
إنه نعم المولى ونعم النصير
عكار العتيقة . لبنان
نيسان 2020م.
……………………………………………….
الحواشي
1- إنجيل متى،4/11 ؛ سفر التثنية الإصحاح الثامن
2- رواه أحمد عن أبي هرير
3- سورة آل عمران، آية 110
4- سورة القلم، آية 4
5- إنجيل لوقا، 10/27 ؛ إنجيل لوقا، 22/37
6- سفر هوشع، 6/6
7- إنجيل مرقص، 10/44
8- إنجيل متى، 12/7 ؛ إنجيل لوقا، 6/31
9- إنجيل لوقا، 10/27
10- سورة المنافقون، آية 8
11- سورة آل عمران، 103
12- سورة النساء، آية 58
13- سورة البقرة، آية 177
14- سورة الإسراء، آية 23
15- متفق عليه
16- متفق عليه
17- متفق عليه
18- متفق عليه
19- أخرجه الحاكم في المستدرك
20- أخرجه مسلم
21- رواه الترمذي
22- متفق عليه
23- إبن حجر: تهذيب التهذيب، ج9، ص42
24- الأغاني، ج2،ص187
25- سورة الإنسان، آية 8 و 9
26- البلاذري: فتوح البلدان، ص 411
27- ابو الحسن النبهاني: تاريخ قضاة الأندلس، ص16 ؛ محمد أبو فارس : القضاء في الاسلام، ص 185
28- أحمد الشلبي : تاريخ النظم القضائية..ج 7، ص287
29- السرخي: المبسوط، ج16، ص 61 ؛ المكي: ج2، ص 240
30- محمد بن يوسف الكندي: الولاة والقضاة، ج2، ص 348
31- ابن عساكر: تاريخ بغداد،ج3،ص 203، و ج8،ص 190؛ ابن تيمية:اقتضاء الصراط، ص169
32- أخرجه عن ابن عباس: الطبراني في الكبير؛ الحاكم في المستدرك؛ البيهقي في شُعَب الايمان
33- أخرجه عن أنس: الطبراني في الكبير ؛ الحاكم في المستدرك
34- سورة الطلاق، آية 2 و 3
35- سورة الحج، آية 46
36- إنجيل مرقص 10/25
37- سورة الرحمن، آية 9