من مصر خرجت الرسالة
بقلم: عدلي صادق
كاتب ومفكر فلسطيني
يصح تؤخذ واقعة الممثل محمد رمضان، وسيلة إيضاحية، تشرح للعديد من الأطراف، بعض الحقائق المهمة، التي كادت الأحداث في هذه السنة، أن تطمسها وأن تتجاوز عنها. وللأسف، سيكون أول الذين يحتاجون الى التأمل فيما أظهره المصريون وحذا العرب حذوهم؛ هم الممسكون بمقاليد السياسة الرسمية الفلسطينية، لا سيما بعد قرارهم الأخير العودة الى التنسيق الأمني مع إسرائيل، وتعليل ذلك بلغة الإستهبال السخيف، بأن تلك الخيبة، جاءت محصلة انتصار، وأن جوهر الربح في هذا الإنتصار الموهوم، أن العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية قد عادت الى “مسارها الطبيعي”.
في مقدور المرء أن يتخيل كيف تابع رسول عباس الى الإسرائيليين، ردود الأفعال على ما “فعله” الممثل محمد رمضان، علماً بأن هذا الأخير، ليس من أدعياء تمثيل القضية الفلسطينية، ولا يزعم أنه من حركة تحرر، ولا يَنْسِبَ لنفسه فعلاً كفاحياً. ربما يكون بحكم النجومية الإفتراضية، التي تعزل النجم الموهوم، عن حياة الناس وخوالجها؛ قد فقد الحساسية الكافية لأن يستشعر الحرج من الإختلاط بفنان إسرائيلي، دون داعٍ، ثم السماح بالتقاط الصور.
الرأي العام الشعبي، المصري، أذهل الفلسطينيين أنفسهم، الذين تعودوا على مشاهدة الإختلاط مع الإسرائيليين اليهود، بحكم الأمر الواقع، الذي يجعل كل شان فلسطيني في الداخل، رهناً بتدبير أو تسهيل أو تقاطعات إسرائيلية.. فلكل أرض ولكل أوضاع سيكولوجيتها الخاصة. بل إن في حياة المجتمع الفلسطيني مفارقات مدهشة، إذ يمكن أن يكون الفلسطيني مواطناً إسرائيلياً بحكم أمر واقه نشأ عن النكبة التي فرضت عليه الجنسية الإسرائيلية. لكنه في الجوهر وفي حقيقة وعيه وممارسته وثقافته كان وسيظل وطنياً فلسطينياً بامتياز، يحتقر الهدهد، رسول عباس الى حاكمية الإحتلال العسكرية. والإنسان الفلسطيني، عندما ينتقل من الأراضي المحتلة، حيث تكون التقاطعات مع المحتلين جبرية ومن شروط الحياة؛ ويصبح في الخارج، سرعان ما تختلف ردة فعله تماماً، ويتحاشى حتى الكلام، عندما يصادف الإسرائيلي في أي مكان حيث لا تفرض شروط الحياة تقاطعات إضطرارية مع المحتلين!
كان درس محمد رمضان ومأزقه وسبب تعرضه للعقوبة، هو أن مجتمع بلاده، بقواه الإجتماعية ومنظماته الأهلية ونقاباته ونخب الثقافة والفنون والآداب؛ لا تزال ترى الإسرائيلي محتلاً يتصرف بصلف وعنجهية ولا يتورع عن ممارسة كل الإنتهاكات والجرائم. ولم يتقدم هذا المحتل، خطوة في اتجاه التسوية المتوازنة التي ارتضاها العرب مقابل السلام، دون أن يُطلب منه سوى الجلاء عن الأراضي التي احتلها في العام 1967. فهذا الإسرائيلي يتمسك بأقدم وآخر احتلال عسكري في العالم، ويريد الفوز بالتطبيع، مع التمسك بسياساته المتطرفة والإستعلائية. لذا من الطبيعي ألا يتقبله العربي، لأن المسألة هنا، تتعلق بالوجدان الشعبي، الذي لا يتصرف من وحي سلطة سياسية، وإنما بوعيه التاريخي وتجربته. فالتطبيع يمكن أن يجري بين أوساط الحكم، لكن إسرائيل تحديداً ستجد نفسها لا تزال مكروهة شعبياً على المستوى العربي والإسلامي. لذا فإن تصفير مشكلاتها مع بعض الحكومات، لا ولن يحل لها مشكلتها الأساسية على الأرض، ولن تجلب لها انتصاراً على المجتمع الذي تحتل أرضه وتحكمه، ما يجعل حركتها السياسية و”إنجازات” التطبيع، وطموحها الى الإستقرار، تدور كلها في حلقة مفرغة.
إن الثقافة والوجدان الجمعي والذاكرة، يمكن أن تصنع السياسات التي تلائمها، كذلك يمكن أن تُبتلى بسياسات لا تلائمها، ولكن هذه الأخيرة، من المستحيل أن تتمكن من صنع ثقافة أخرى ووجداناً شعبياً آخر، وذاكرة جماعية أخرى. فالعدل أساس المُلك والمحتلون يعرفون طبيعة مشكلتهم. ولو نجحوا في التطبيع مع العالم العربي من الماء الى الماء، واستمر أيضاً تطبيع السلطة الفلسطينية الذي تجاوز كل الخطوط التي يتوقعها الإحتلال نفسه أو يطلبها؛ فلن يكون هناك انفراج أو استقرار لإسرائيل، والدلائل على ذلك موجودة ومرعبة للإحتلال. فقد أصبحت إسرائيل على يقين، بأن ظاهرة العمل الفردي الشبابي الفلسطيني، لن تنتهي حتى لو استمر الإحتلال مئة سنة، وهذه ظاهرة لا تنتظر تنظيماً ولا منظمة ولا مدداً بالسلاح. فطالما أن المحتل اختار الصراع الدائم مع الشعب الفلسطيني، فهو القاتل واللص الذي لن يستطيع إغماض جفنه، حتى ولو حظي بدعم العالم كله!
حادثة الممثل الذي أوقع نفسه في حفرة التأثيم والإقصاء، أعطت البرهان الساطع، على بطلان التطبيع بمعناه الإجتماعي والثقافي. ولا ننسى أن مصر، هي الإقليم القاعدة في العالم العربي، وبيضة القبّان، وقد أرسلت إشاراتها في كل اتجاه.