بقلم: د. علاء عبد الحميد أستاذ العلوم السياسية
فى ظل منعطف خطير يمر به النظام الرسمى العربى، وفى ظل محنة حقيقية تواجه الشعوب العربية، تأتى ظاهرة الحروب الأهلية وهى الأولى من نوعها فى العقود الأخيرة وهو ما يهدد تقسيم الدول العربية إلى دويلات أو كانتونات صغيرة، وقد امتدت إلى الكثير من الدول، بسبب مزيج متشابك من الدوافع والمتغيرات، بعد أن عجز العالم العربى عن تأسيس الدولة الحديثة على غرار النموذج الأوروبى. على رغم أن هذا النموذج حمل فى طياته نتاج ثورة ثقافية كبرى فى الدول الأوروبية نجحت فيها هذه الثورة فى الفصل التام بين النصوص المقدسة وسلوك الدولة فى الشأن السياسى والاقتصادى، وفى المقابل نجد الدول العربية ما زالت تعانى أزمة اندماج وطنى تتفاقم وتهدد بزوال بعض الدول أو تقسيم وتفتيت البعض الآخر، وذلك بفعل التخطيط العشوائى للحدود، كما جاء فى اتفاقية سايكس – بيكو، ما أدى إلى عدم تطابق الحدود السياسية مع الحدود السكانية فى معظم تلك الدول، فهناك الكثير من المذاهب والإثنيات والطوائف داخل حدود الدولة الواحدة، وهو وضع فشلت معظم النظم الحاكمة فى العالم العربى فى التعامل معه بحكمة وفاعلية، ما اضطر جماعات كثيرة شعرت بأنها محرومة للجوء إلى العنف المسلح، إما لتحسين وضعها فى عمليتى توزيع الثروة والمشاركة السياسية فى الدولة، وإما للانفصال عنها، كما حدث فى جنوب السودان. وفى الوقت نفسه وقف المجتمع الدولى فى الكثير من الحالات عازفا عن التدخل فى تلك الصراعات، إما بسبب ضعف الأهمية الاستراتيجية للدولة وإما نتيجة مصالح بعض الدول الكبرى وإما بسبب قصور فى منظومة الأمن الدولى، كما هى الحال فى سوريا. غالبا ما تكون الدولة فى حال استقرار فى ظل ازدهار اقتصادى وخطط تنموية متوازنة، فتكون قادرة على تجسيد ترابط الجماعات المختلفة، وعدم المساس بالتعددية الإثنية والثقافية. وهو ما لم يحدث فى كثير من المجتمعات العربية. فقد أصبحت الحدود تحوى داخلها جماعات إثنية مختلفة لم تتفاعل تفاعلا إيجابيا، ولم تنصهر داخل الحدود الحديثة للدولة، وتكرست من خلال ذلك حالات التمرد ورفض الانصياع لهيكل الدولة الحديثة، ثم تتطور الأمور إلى صراعات داخلية ومواجهات دموية تؤدى إلى مقتل الآلاف وتشريد الملايين. وتتعدد التعريفات الخاصة بمفهوم الصراع الداخلى، فمنهم من يعرّفه بأنه «يحدث داخل حدود دولة واحدة بالأساس، بصرف النظر عما إذا كان لذلك الصراع امتداد خارج حدود تلك الدولة». وغالبا ما ينشأ الصراع حينما تختلف المصالح بين شخصين أو أكثر أو مجموعة وأخرى داخل دولة ما وينفجر الصراع ثم يتحول إلى حرب أهلية إذا توافر دعم خارجى لجماعة أو أكثر من المشاركين فيه من دول الجوار، وتلك أبرز التحديات التى تواجه الجسد العربى المترهل، والتى كانت أهم تداعياته: فشل الدول فى الأنظمة الجمهورية بالحفاظ على سيادتها وهيبتها داخليا وإقليميا ودوليا، وأبرز النماذج الفاشلة اليمن وليبيا وسوريا والعراق التى أصبحت فيها الدولة غير قادرة على بسط نفوذها على كامل أراضيها وتوفير الحماية لمواطنيها. تراجع الانتماء الوطنى وبروز الانتماء الفئوى أو القبلى، ما يضعف مكانة الدولة وسيادتها ويشجع على تفتيتها، فغالبية المجتمعات العربية تُعانى نزاعات طائفية ومذهبية وعرقية، لا سيما فى اليمن وليبيا وسوريا والعراق، فى الوقت الذى أصبحت فيه الانتماءات السابقة على تكوين الدولة الحديثة هى الحاكمة، حيث باتت القبائل والعشائر تسيطر على المشهدين اليمنى والليبى بصورة مطلقة، فى شكل أصبح معه منطق القوة والاحتكام إلى السلاح هو الأساس بين المتناحرين. تؤدى الصراعات الداخلية إلى تهجير السكان فى شكل قسرى، هربا من تداعيات القتال، وإقامتهم فى معسكرات للاجئين خارج البلاد، أو معسكرات للنازحين داخل بلادهم، الأمر الذى يؤدى إلى اختلال التوازنات الإثنية فى دول الملجأ، وربما إلى إشعال صراعات جديدة فيها، كما هى الحال فى لبنان. كما ينجم عن الصراعات الداخلية أشكال عدة من انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، حيث يتعرض السكان فى الدول المنكوبة بهذه الصراعات للتعذيب والاغتصاب وزواج القصر والاعتقال التعسفى والنفى. تحول الصراع المسلح فى سوريا إلى منطقة جذب لعناصر الجماعات المتطرفة فى العالم، ما يشكل قنبلة موقوتة بعد انتهاء الصراع. منح التشرذم العربى فرصة لبعض الدول الإقليمية للتدخل فى شئون عدد من البلدان العربية والعبث بمقدراته، وهو ما يزيد حال الارتباك وعدم الاستقرار، ومن ثمَّ انتشار عملية استنساخ النماذج الفاشلة للدول العربية. ويُمثل الدعم الذى تقدمه كل من تركيا وإيران، أبرز الأطراف الإقليمية، للأطراف المتصارعة فى سوريا مثالا حيا على ذلك فى إطالة أمد الصراع للقضاء على البقية الباقية من الدولة السورية، فقد فتحت أنقرة معسكرات تدريب لفصائل المعارضة داخل الأراضى التركية وكذلك سمحت بتدفق المقاتلين الأجانب عبر أراضيها إلى الداخل السورى، فى حين أقدمت إيران على إرسال بعض كتائب «الحرس الثورى»، إضافة إلى المساعدات العسكرية للنظام السورى، ما أدى إلى تكريس نوع من التوازن العسكرى، وهو ما يعيق الوصول حتى الآن إلى أى تسوية ويخدم المصالح الإسرائيلية. أخيرا، فإن الأمن القومى العربى فى حاجة إلى استراتيجية عاجلة للحفاظ على ما تبقى من الجسد الهزيل، كما أنه فى حاجة إلى بلورة العلاقة بين الدولة والمجتمع فى بعض دول المنطقة وإلى مزيد من الشفافية بين الحكام والمحكومين طبقا للعقد الاجتماعى الذى يحتم رؤية شاملة لإدارة هذه العلاقة، لأن أى خلل فى هذه العلاقة سيؤدى إلى حال من الانسداد، خصوصا مع عدم قدرة كل الأطر الاقتصادية والسياسية الراهنة على تلبية احتياجات المواطن العربى، وهو ما سيؤدى فى النهاية إلى زيادة معدلات العنف المتبادل وإلى نشأة جيل جديد راديكالى يصعب السيطرة عليه ويسهم فى توفير بيئة خصبة للإرهاب وانتقال الفشل من دولة إلى أخرى.