“العيد” كلما تأملت تلك الكلمة ينتابني شعور بالبهجة والسعادة، كأنني أعيش تلك اللحظات الممتعة والتفاصيل البسيطة المحفورة كنقش فرعوني على جدار الذاكرة، حين كان العيد يعني الملابس الجديدة ورائحة جلد الحذاء الجديد، ولمة العائلة وصخب أصوتنا ولهونا، فرحة الأطفال بالعيد لا تضاهيها فرحة، خاصة حين يلتقي أبناء العائلة الذين باعدت بينهم المسافات وجمعتهم بهجة الاحتفال بالعيد في منزل العائلة الكبير، و “العيدية”، التي تعد واحدة من أهم طقوس وعادات الاحتفال بالعيد في مصر، وأكثرها انتشارا ورسوخا، ومن عادات وتقاليد العيدية أنها تختلف في القيمة حسب السن وأن تكون نقود جديدة وزاهية، تغمر الشوارع فرحة الأطفال الذين ينطلقون بـ”لبس العيد”، لقضاء الأوقات السعيدة بالذهاب إلى الحدائق مع العائلة وإلى السينمات والخروج إلى المتنزهات، والملاهي حيث اختبار مشاعر مختلطة من الخوف اللذيذ والرهبة والبهجة ونحن نطير بالهواء على ارتفاعات شاهقة، وننظر للعالم وكأننا نمتلكه من هذه البقعة الملونة بالأضواء. لم يكن هناك الكثير لنفعله ولم تكن الحياة تزخر بكل التعقيدات الحالية، كان كل شيء بسيط لكن متعته فائقة. مع اقتراب العيد لا أستطيع الهروب من سؤال مُلح، هل مازلنا نعيش العيد فرحة؟ أم اختفى المعنى الفعلي للفرحة؟ أين ذهبت الفرحة؟ هل ذهبت لحياة رقمية بلا روح في رسائل نصية أو حتى صوتية باردة، للتهنئة بالعيد بدلا من التجمعات الدافئة والأحضان والتلامس البشري الحي؟ هل استبدلنا وجودنا الفعلي بوجود افتراضي ضبابي غير ملموس؟ هل بهجة العيد أصبحت بلا ملامح لأننا أصبحنا مجرد أسماء على حائط رقمي بلا ملامح؟
العيد فرحة تتجاوز الأشياء المادية والظروف الخارجية. إنها حالة روحية تنبع من الداخل وتتغلغل في أعماق الإنسان. أرفض أن أتخلى عن العيد كما عرفته وعشته وتوارثته عبر تاريخ طويل لآلاف السنين. في العصور القديمة، كانت تعتبر السعادة والبهجة من جوانب العقيدة الدينية للمصريين القدماء، والحياة اليومية للثقافة المصرية القديمة، التي تتميز بتعبيرها الغني والمتنوع عن الفرح والسعادة. كان الشعب المصري القديم يؤمن بأن السعادة ليست مجرد حالة عابرة، بل هي هدف يسعى إليه الإنسان في حياته، لذلك، كانت توجد العديد من العوامل والممارسات التي تعزز السعادة والبهجة في حياة الناس. كما كانت العقيدة الدينية تلعب دورا كبيرا في تعزيز السعادة، حيث كان الشعب المصري يؤمن بقوة الآلهة وتأثيرها على حياته اليومية، وكانوا يعتقدون أنها هي من تجلب الفرح والسعادة ويعبدونها بشكل خاص، ويقدمون لها التضحيات والصلوات بهدف الحصول على السعادة والبهجة في حياتهم. من أهم هذه الآلهة “بسو”، التي تعتبر رمزا للسعادة والاحتفال، تم تصويرها عادةً على شكل امرأة شابة ترتدي تاجا مزينا بالأزهار، وتحمل في يدها طوقا من الأزهار والفواكه. كما كانت هناك أيضًا “حابي” المرتبطة بالمرح والبهجة وتمثلت في صورة امرأة ترتدي زيّا ملونا وتحمل أيضا زهورا وفواكه.
كما كان هناك تركيز كبير على الاحتفالات والمناسبات السعيدة، كانت الاحتفالات تُقام في مناسبات مختلفة، مثل الأعياد الدينية والمواسم الزراعية والمناسبات الاجتماعية. وكانت هذه الاحتفالات تشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة التي يتجمع فيها الشعب، مثل الموسيقى والرقص والألعاب والعروض الفنية. وكان الناس يشاركون بفرح في هذه الاحتفالات ويتبادلون التهاني والهدايا بهدف تعزيز السعادة والبهجة المشتركة. كما كان الشعر والأدب يعتبران وسيلة للتعبير عن المشاعر الإيجابية وتسليط الضوء على الجوانب المشرقة من الحياة. كان الشعراء يكتبون قصائد تعبر عن الفرح والسعادة ويشاركونها مع الناس لإضفاء البهجة والسرور عليهم.
ومن الجوانب المثيرة للاهتمام في الثقافة الفرعونية هو أنها لم تقتصر على السعادة الظاهرية فقط، بل أيضا ركزت على السعادة الروحية والتوازن الداخلي. كانت تؤمن بأن السعادة لا تأتي فقط من الأشياء الخارجية والمادية، بل تنبع من الروح والتواصل العميق مع الذات والكون. إن الثقافة الفرعونية تستحق التأمل والاستلهام في عالمنا الحديث. فبغض النظر عن الزمان والمكان؛ فالسعادة والبهجة لا تزال تعتبر هدفا يسعى إليه الإنسان في حياته، إنها ليست مجرد غاية، بل هي أساس لاستكشاف الحياة وتحقيق التوازن والسلام الداخلي؛ فالتعبير عن الفرح والاحتفال بالأوقات السعيدة يعزز الروح المعنوية ويعطي الحياة معنى وجمالا.
تركت هذه الثقافة العريقة إرثا ثقافيا غنيا يحمل رسائل الفرح والسعادة إلى الأجيال اللاحقة، وتذكرنا بأهمية البحث عن السعادة والبهجة في حياتنا اليومية، لذا، دعونا نستوحي من ثقافة اجدادنا ما يجعل من السعادة والبهجة جزء من حياتنا اليومية وبالأكثر في أيام الأعياد، لتكن هذه الأيام صلة رحم ودعوة لتحقيق حلم، وإعادة علاقة قتلها البرود إلى الحياة من جديد، تصالحوا مع العيد، فالسعادة في أدق التفاصيل الصغيرة، كرؤية ابتسامة صديق قديم، أو في لحظة انسجام بسيطة مع الأحباء، قد تكون الحياة قصيرة ومليئة بالتحديات، ولكننا بقدرتنا على الاستمتاع باللحظات البسيطة وتقديرها، نكون قد اكتشفنا سر السعادة الحقيقية.
دعونا نلتقط لحظات السعادة ونضعها في صندوق الذكريات، لنستطيع استعادتها في الأوقات الصعبة؛
فقد تكون الهة الفرح والبهجة تنتظرنا على حافة الزمن لتضفي لمسة من السحر والسعادة على حياتنا.
كل عام وأرضنا الطيبة طيبة وجميعكم بخير وفرح والعالم يحل عليه السلام والأمان.